يذكرنا "الرصاص المصبوب"،وهو رصاص يصنع يدويا من أجل ضحية تم اختيارها. أي أن هناك تعاقدا بين الصانع والرصاصة لقتل هدف محدد. يذكرنا بالعبارات التي كتبت على القنابل التي أعدت لقصف لبنان في حرب تموز، وعلى جيل سابق منها لفيتنام، وبعبارة تكررت كتابتها على خوذات جنود المارينز"ولد ِليَقتِل". كتابات عبرت عن الرغبة والإرادة بقتل الآخر. وهدفت للتعويض عن افتقار الرصاص المنتج في المصانع والأطفال في أرحام أمهاتهم، لعلاقة عقدية مسبقة بينهما وبين ضحية معينه يراد قتلها. ويأتي الإبداع الإسرائيلي الأخير ليبرهن أن إسرائيل هي الأرفع مقاما في التأمل بالقتل العمد. تأمل أرشد ضميرها لعقد العزم على قتل غزة وسكانها بمن فيهم الأطفال في الأرحام وبرصاصها المصبوب.
تجمع الصحافة العالمية (تقريبا) أن إسرائيل فشلت في تحقيق الأهداف التي أعلنتها لحربها. فقد عادت الوحدة الوطنية لشارع غزة، وبات صوت المقاومة السياسي والأخلاقي أقوى وأوسع مدى، وظل السلاح المقاوم للاحتلال يعمل. أي أن الضحية التي استهدفتها العملية بشكل رئيس نجت من الرصاص المصبوب الذي نجح في قتل الكثير من الأطفال والنساء.
وإذا ذهبنا إلى الأهداف غير المعلنة: إذابة إرادة الشعب الفلسطيني وصبها في قوالب جديدة، بحيث تكون المادة الناتجة عجينة القوام، قابلة للتشكيل حسب الرغبة الإسرائيلية. وسحب الاعتراف بالفلسطينيين كشعب يحق له إقامة دولة حرة مستقلة، وتحويله إلى مجموعات بشرية مسجونة في معسكرات اعتقال تدار من قبل سلطة تعينها إسرائيل، كما تعين له كمية الماء التي يستهلكها، والأغاني التي ينشدها، وماذا يسمح له أن يتعلم.
أي وفي المختصر؛ قبول الفلسطينيين بدونية تقترب من تلك التي عاشها الأفارقة في مزارع القطن وقصب السكر الولايات المتحدة الأمريكية. دونية عبرت عنها وزيرة الخارجية الأمريكية في جلسة مجلس الأمن بمطالبتها بالإفراج عن الجندي الإسرائيلي الأسير جلعاد، ومن غير أن تذكر كلمة عن إحدى عشر ألفا من الفلسطينيين المعتقلين. مطالبتها تلك تشكل مطلبا للفلسطينيين بأن يقبلوا بأن معتقليهم في "بوخن فالد" إسرائيل هم أقل قيمة من ذلك الواحد، رغم وجود رئيس مجلسهم التشريعي المنتخب ديمقراطيا بينهم.
ترويض عنيف وعلني لشعوب هذه المنطقة كي تقبل بعيش وضيع. شعوب افتتحت لها الدكتورة رايس مدرسة لإعادة تأهيلها للعبودية. أدواتها ضرب بهراوة غليظة على رؤوس بشر وكأنهم قطيع من الفقمات. لكن هذه الأهداف فشلت أيضا وكلها. رغم أن ميزان القوى بين سكان غزة والقوتين الأمريكية والإسرائيلية يعكس فروقا هائلة، هي أكبر بكثير من تلك التي كانت بين ثلاثمائة جندي اسبارطي (يتغنى الغرب حتى اليوم بصمودهم) وبين جيش فارسي قوامه أربعين ألف جندي.
أدهشت غزة العالم بإيمانها بالحرية والعدالة، بجسارتها في مواجهة بطش تلك القوة النارية الهائلة*؛ بصمودها الأسطوري في وجه همجية هي الأقبح في التاريخ المعاصر. بأنها لم تركع ولم تتوسل. فكان أن ساهمت روحها العالية تلك، بتحرير الإنسان وفي كل أرجاء المعمورة من إيقاع حياته اليومية فانطلق يهتف لها، وواقع الحال أنه كان يعلن تضامنه مع نفسه. وهنا مكمن القوة والخطورة معا. فشباب اليونان كانوا قد خرجوا للشوارع وذكروا أوروبا بثورة الستينات. وغزة هذه قد تكون الشرارة لشباب أوروبا. ربما لذلك هرول زعماء أوروبا لرشوة قادة إسرائيل قبل أن يقدح الحدث الزناد. فالغالبية العظمى من البشر عاشت حرب غزة وكأنها فوق رؤوسهم، كثرت الاتصالات بين الأهل والأصدقاء لتداول الحديث عنها. ودخل الأطفال بقوة على الحدث وبسط ضميرهم الكثير من الأسئلة. فخرج ضمير المعمورة إلى الشوارع ليعدل ميزان القوى ذلك هاتفا أنه مع غزة. تحولت غزة من بقعة صغيرة عل الكرة الأرضية إلى مرآة لذلك الضمير الذي قوض وبحزم مدرسة رايس للعبودية، واستعاد رغبته هو بتتويج الحرية. لم توحد غزة الفلسطينيين في غزة والضفة وال48 والشتات والعرب والمسلمين البسطاء فقط. بل وحدت شوارع العالم كلها، وغدت أحد مفاتيح أملها للخلاص من هذه الحقبة التي فاق فسادها وبشاعتها حقبة غاليغولا ونيرون. حالة غير مسبوقة! لقد استيقظ شيء ما سيعبر عن نفسه لاحقا.
الخارطة السياسية للرسمي العربي غدت أكثر وضوحا؛ حكام مستأجرين، (سلطة فلسطينية ترفض مقاضاة قادة إسرائيل) وآخرين "ربما" قرروا الخروج من لعبة السائد التاريخية تلك، فوضعوا في مؤتمر الدوحة بعض العراقيل أمام نموذج السادات؛ شيخ الليبراليين والمحافظين العرب الجدد المتخصص بالتنازل عن كل شيء، والمتحفز وبشغف لالتهام نصر غزة بأسرع ما يمكن، ولإنقاذ إسرائيل من هزيمة أخلاقية غير مسبوقة. فبعد أن رجمت غزة بأحدث ما في ترسانة بوش من أدوات القتل والتدمير، وبيد عميدة القتلة المأجورين "إسرائيل". هاهم يخططون لرجمها بأقبح ما في ترسانة إسرائيل والولايات المتحدة ومن يتبعهما من العرب والأوروبيين من أدوات سياسية وإعلامية ونفسية مصبوبة أيضا.
ربما من الأهم اليوم بالنسبة لنا نحن العرب البسطاء أن نراقب غضبنا، وأن ندفع النفس للتأمل واكتشاف هويتها والتعبير عن طاقتها بأشكال فاعلة قابلة للتركيم. فهم سيحاولون إثارة أشكال من الغضب وبأساليب محترفة ومتخصصة، لمنع التجربة من أن تتبلور محاورها في اتجاهاتها الطبيعية كما فعلوا بعد حرب تموز(شيعة سنه إيران). وسيدفعنا تبجح بعضهم ببطولته في حرب غزة، ونحن نعرف أنه كان في الموقع الآخر لأن نغضب. يجب التوقف عن أن يكون فعلنا وقولنا رد فعل لأقوالهم وأفعالهم. يجب أن نرسم نحن خرائط لما نريد وكيف نصل لذلك. فالسادات موجود (هناك الكثير منه ومن كرزاي)، وسيظل موجودا لفترة ليست بالقصيرة. لكن وأيضا في غزة كما في لبنان والعراق وكل شوارع العالم، برهنا أننا موجودون. فلتكن رؤيتنا متسقة مع هذه الموجة البشرية المناهضة لوحشية الرومان الجدد، ولا نسمح لهم بجعلنا وتحت ضغط الغضب ننغلق على أنفسنا. بل ندفع غزة وباستمرار وإصرار كي تبقى عنوانا عالميا لنضال ضمير البشرية من أجل احترام حقيقي لحق الإنسان في العيش بأمان وكرامة وهناء. يجب أن نصر على أن تكون غزة راية للحرية.
كيف نحافظ على هزيمة إسرائيل التي دفعت غزة ثمنا غاليا من أجلها؟ ذلك هو السؤال.
علي محمد
دمشق. 20-1-2009