طلال سلمانليس ما بعد غزة، بصمودها العظيم في وجه الحرب الإسرائيلية المدمرة، مثل ما قبلها:
لقد بُعثت فلسطين مجدداً، لا كمأساة إنسانية بل أساساً كقضية شعب محروم من الحياة ومن حقه في دولة فوق أرضه، أو بعض أرضه، أو بعض البعض منها.
لقد فرضت دماء الأطفال والنساء والشيوخ والبيوت وأكواخ اللجوء وأشجار الزيتون والبرتقال، معززة بصمود المجاهدين الذين قاتلوا باللحم الحي وبصواريخ محدودة المدى والفعل، على العالم كله وأوروبا أساساً، أن تتنبّه ـ مجدداً ـ إلى هول الجريمة المفتوحة على مدى النظر منها، وإلى احتمالاتها الخطيرة على وحدتها قيد البناء، وعوامل الاستقرار فيها.
وهكذا تنادى الأوروبيون، من فوق رؤوس العرب وقممهم جميعاً، إلى التلاقي سريعاً بدعوة استدرجوا مصر إلى توجيهها، ليحددوا مهمة القمة العربية التي ستفتتح أعمالها اليوم، والتي كانت بعنوان اقتصادي، ثم فرض الدم أن تعود سياسية، وبالتالي فلسطينية.
ولقد تكاثرت القمم على فلسطين، أو باسمها، حتى كادت تتوزعها نتفاً..
خمس قمم خلال أربعة أيام: بينها التشاورية المفتوحة على الريح في الدوحة، والخليجية المقفلة على أهل النفط والمال والخوف من الزلازل في الرياض، والعربية الرسمية والشرعية والسياسية التي فرضت نفسها كمقدمة لا بد منها للعودة إلى القمة الاقتصادية المقررة، أصلاً، في الكويت، وهي قمة ابتدعها الحرص على الجامعة العربية كمؤسسة بهدف حماية النظام العربي من الانهيار..
... وفي الوقت الفاصل بين قمتي التشطير العربي والانقسام من حول فلسطين،هبطت على الجميع قمة دولية بضيافة عربية لمسح الدماء عن آلة القتل الإسرائيلي والتعويض على غزة الشهيدة... بما يكفل إحياء مبادرة السلام العربية التي كانت قد نعيت رسمياً بعد نسيانها شعبياً.
يمكن أن يقال، الآن، إن الدخول الأوروبي الكثيف على خط الحرب الإسرائيلية على غزة، قد وفر النصاب السياسي للقمة العربية العتيدة، وحدّد لها جدول أعمالها الفعلي، مسقطاً منه المزايدات والمناقصات والمهاترات والمعارك الدونكيشوتية حول النصاب وحول الأولويات، بل حول الموضوع ـ القضية، فأراح الكويتيين الذين كانوا أعدوا ـ بحرفية عالية ـ للقمة الاقتصادية العتيدة، فإذا بإسرائيل تغمر أرضهم بدماء أهل غزة، عشية الافتتاح.
... خصوصاً أن القمة الأوروبية على الأرض المصرية في شرم الشيخ قد أحالت الأمر برمته على الإدارة الأميركية الجديدة، باعتبارها مصدر القرار، كل قرار وأي قرار، في الشؤون جميعاً، وتحديداً في كل ما يتصل بإسرائيل واستطراداً في شأن الصراع العربي ـ الإسرائيلي..
ليس للثورات والثوار مقعد في المؤتمرات العربية على مستوى القمة، إلا إذا اقتحمتها بالدم. فكيف إذا كان عنوان هذه القمة اقتصادياً؟
وبالمنطق التجاري البحت يمكن تبسيط الموضوع: إذا أنت لم تستطع أن تشتري الثورة فاشترِ غزة... وإذا لم تستطع أن تستعيد فلسطين فاشترِ منها ما يكفي لإنهاء زمن الثورات والكفاح المسلح...
وعنصر القوة في أيدي أصحاب المال أنهم هم هم من يموّل، بالرغبة أو بالمصلحة أو بالتقية، أو بعروض لا يمكن رفضها، الثورات، وأحياناً لتحقيق مصالح مناقضة بالطبيعة لمنطقها..
ولعل أهم عناصر القوة في قمة الكويت أنها القمة العربية الوحيدة التي يفترض فيها من نظّمها، أنها سوف تتحدث بلغة العصر: المال والاستثمار ومشروعات التكامل والنهوض الاقتصادي، في مختلف المجالات.
وتعرف الكويت، التي تتقن لغة المال والمصالح الاقتصادية عموماً، أكثر حتى من أقرانها الخليجيين، أن الاقتصاد هو الذي يصنع السياسة، في أوضاع طبيعية، وأن العرب يهدرون الكثير من الوقت (والمال) في الهذر السياسي، بينما القرار يبقى لصاحب القرار في النهوض الاقتصادي.
لقد تعذر إغراق غزة في البحر، كما كان يتمنى بعض القادة الإسرائيليين.
كذلك تعذر إغراقها حتى الموت بدماء شهدائها، كما حاول الجيش الإسرائيلي أن يفعل، مستخدماً المحظور دولياً والمحرّم إنسانياً، على امتداد ثلاثة أسابيع طويلة، بعد سنتين من حصار التجويع والإذلال.
وكان المشهد محزناً ومخزياً، على امتداد الأسابيع البلا ليل، من القتل والتدمير، بينما جامعة الدول العربية شاهد أخرس، فحين أتيح لها أن تجتمع قالت ـ لا فض فوه من قال ـ: فلنذهب إلى مجلس الأمن!
ولم يكن الذهاب إلى مجلس الأمن غير مهلة إضافية للجيش الإسرائيلي ليرتاح ويريح أهل الجامعة من الانتفاضة ضد الحصار، في غزة..
ولإشغال الوقت فقد تبرع الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي للتخفيف عن القيادة المصرية باقتراح مبادرة تخطف الدور من الحكومة التركية التي هزتها الجريمة الإسرائيلية فتحركت بنشاط وتعاطف ملحوظين، وأسقطت الحرم عن قادة حماس المقيمين تحت الرعاية السورية، لتشركهم كطرف..
إذن فقد نجحت المبادرة الأوروبية، بالقيادة الفرنسية، على الأرض المصرية، في التعويض عن العجز العربي، وعن خواء القرار الذي أصدره مجلس الأمن فشرع بموجبه الحرب الإسرائيلية...
على أن المفجع أن السلطة الفلسطينية كانت في هذا كله أقرب إلى شاهد الزور منها إلى دور صاحب الدم.. والقضية، فلا هي اتخذت موقع المقاتل، ولو سياسياً، في مواجهة العدوان (الذي لم يتجرأ رئيسها على تحديد هويته الإسرائيلية) ولا هي أفادت من موقع الضحية لإدانة القاتل واستحقاق الجدارة بتمثيل الدم الفلسطيني في القمة العربية.
ولقد فرضت المقاومة في فلسطين، ممثلة بحماس والجهاد ومن معهما من المنظمات المقاتلة، نفسها طرفاً، حتى لو لم يسمها أحد، فلولاها لما انتبه أحد إلى جريمة مسح فلسطين عن الذاكرة الإنسانية... وبالتحديد عن ذاكرة الرئيس الأميركي الجديد الذي أغرقه سلفه بسلسلة من الإخفاقات والحروب التي دفع العرب بعض كلفتها الباهظة، ودفع المسلمون البعض الآخر، ومع ذلك فقد ترك بلاده غارقة في مشكلاتها حتى الاختناق